على الرغم من أن كل المؤشرات تنذر بأزمة سوسيو-اقتصادية خانقة وبتصدع الوضع السياسي على أكثر من مستوى، فإن تنفيذ العديد من التوصيات والقرارات والقوانين ظل موقوفا، ولا سيما تلك المرتبطة بالنموذج التنموي. والتحضير للانتقال الديمقراطي وللتغيير السياسي لم يكن في مستوى الطموحات والتحديات، ويظهر أن القرار كان – ولزمن طويل – بيد نخبة ادارية وتكنوقراطية وعلمية عالية، ولم تحسن وضع المغرب على السكة الصحيحة من الناحية الاجتماعية ومن ناحية زرع قيم المواطنة بين المواطنين، والتحضير للانتقال الفعلي وللتغيير السياسي الذي لم يكن- طوال هذه السنوات الأخيرة – في مستوى الانتظارات التي طالت. لهذا فليس غريبا أن يتذرع الجميع اليوم، بأن تقارير العديد من المؤسسات الرسمية والمستقلة تحذر من احتمال تعرض بلدنا للخطر، ولذلك لجأت السلطة لمقاربات غامضة لم يعد يقبلها أي كان في بداية القرن الواحد والعشرين، وفي مقدمتها نشر الغموض والتحريض على فقدان الثقة في الأشخاص والمؤسسات وعدم الافلات من العقاب. وبالطبع، لا تكشف لنا هذه التقارير المصادر التي استقت منها معلوماتها وتوجهاتها، كما أنه لم نعد نفهم ما إذا كانت مؤسساتنا قد تأكدت من صحة المعلومات التي باتت تروجها العديد من المنابر الاعلامية والشبكات الاجتماعية نقلا عن مسؤولين حكوميين أو من ينوب عنهم. وسواء كانت السلطة هي التي أوعزت للحكومة للقيام بكبح جماح الحركات الاجتماعية وتنظيم عدوان جهنمي على قوت الطبقات المتوسطة والصغيرة والفقيرة، فإن ما يتحدث به الشارع المغربي اليوم يشير بوضوح إّلى تجاوز ما جاءت به الوثيقة الدستورية، وما أفردته من حيز مهم للأحزاب السياسية، وما بينته من وظيفتها ووضعها، وما ركزت عليه من أدوار وفي مقدمتها مسألة تأطير المواطنين. لكن ما يحرك الدولة اليوم ليس فقط تقارير الوكالات الأجنبية وتقارير المنظمات الحقوقية والنقابات وجمعيات المجتمع المدني في التأثير على القرارات المصيرية، بل إن الاحتكارات الكبرى، لاسيما في العديد من المجالات الصناعية والتجارية والفلاحية، لها دورها هي الأخرى في التأثير على القرارات المصيرية، ولاسيما أن هذه الاحتكارات تعيش منذ شهور انزعاجا غير مسبوق، ما أعطى للوضع السياسي المتردي معاني جديدة، أشعلت حروبا اجتماعية ضد الطبقة الوسطى والصغرى وضد ملايين الفقراء والمهمشين، وأدت إلى خلق بؤر التوتر الاجتماعي في شتى أنحائه، وجنت منه أرباحا طائلة على حساب دماء المغاربة المساكين والفقراء المتعلقين بالدولة والوطن والمؤسسات/ حراس المعبد.. ولم تقتصر دوافع الغزو الاجتماعي على الطبقة الوسطى والصغرى وعلى المسكونين بأوضاع الهشاشة، بل إن الهدف الأساسي الذي سعت إليه الحكومة، والذي عبر ت عنه في العديد من المناسبات، يكشف هو اللآخر عن دافع أساسي من دوافع الغزو الاجتماعي وهو خلط الأوراق وتنامي الاحساس بالقوة إلى درجة ممارسة القمع الغير المبرر ضد وقفات واحتجات سلمية ونضالات عمالية وشبابية. فجنون القوة هو الذي دفع الحكومة لارتكاب أخطاء والاعتقاد بأنها شرطي يحكم المغاربة، فتسجن من تشاء وتنصب من تشاء وكأننا نعيش في مغرب آخر، غير مغرب تقرير الخمسينية والتنمية البشرية و الانصاف والمصالحة.. هذه الفوضى في السلطة تعرف الدولة جيدا من وراءها ومن يحميها، وربما عبرنا عن هذا بوضوح في أكثر من مناسبة، سواء في نقدنا للأحزاب السياسية وللفاعل السياسي بشكل عام، أو حين عبرنا عن رأينا في منتديات وملتقيات ومؤتمرات وتجمعات.. إن الدولة تعرف كل واحد منا، والشعب يعرف جيدا من خانه ومن دافع ويدافع عنه، ولا أحد بإمكانه أن يتوهم أنه يستطيع قهر إرادة التحرر والانعتاق. إن النتيجة التي جنتها الحكومة الغير المنسجمة نلمسها حاليا في العديد من المجالات، لأنها أدت إلى تنامي شعور العداء ضد الأحزاب السياسية وضد النقابات وضد البرلمان بغرفتيه وضد التنظيمات الترابية وضد المواطنين فيما بينهم. ولهذا، السياسة ليست لعبة من ورق وليست استلاء على المال العام وعلى الأملاك العامة للدولة، كما أن السياسة ليست فقط صناديق وترتيب الفائزين فقط، بل هي الصلابة في وجه أعتى قوى الغدر مهما بلغت ضخامتها.. ربما كنا صغارا نرتدي ثوب الخجل وعباءة الوقار والحشمة، وتركنا من اعتدوا علينا وانتهكوا حقوقنا يصولون ويجولون حتى انتقلوا من وضع النفوذ والمحسوبية إلى أوضاع المس بالروح والوجود. ربما نمو أشكال جديدة ومتعددة المهمات والاختصاصات لدى العديد من السياسيين ببلادنا، يجعلنا نخاف من التشابك بين النخبة السياسية و المسيطرين على المال وعلى الاقتصاد، ويجعلنا نخاف على أنفسنا من “الاوليكارشية السياسية الجديدة” ومن سلوكها العدواني المتعفن الذي تنهجه للتقرب من السلطة السياسية ومن تركيبتها الاحتكارية والعائلية. الدولة اليوم تعرف كل الفاعلين..وعليها أن تختار بين من يريد حماية الوطن بإرادة المقاومة والنضال الجاد والمسؤول، وبين من يريد إعادة إنتاج شروط الاحتيال والنصب السياسي. لا نريد مغرب النصابين والطوائف، نريد مغرب المواطنة والعيش الكريم..مغرب الوحدة الوطنية، مغرب الكفاءات والأطر، مغرب الشباب والنساء، مغرب الكرامة، مغرب المدرسة والصحة والسكن والشغل، مغرب الأمن والاستقرار، مغرب العدل والعدالة الاجتماعية، مغرب من دون فقراء ولا مهمشين، مغرب من دون فوارق طبقية… مغرب الحق في الثروة الوطنية والسلط والعدالة المجالية والبنيات الأساسية في ظل الدولة الاجتماعية. هذا المغرب ممكن، ومن أجله سنضحي بالغالي والنفيس ضد أي مصادرة جديدة لحقوقنا ولوجودنا الشرعي … ربما كنا صغارا نرتدي ثوب الخجل وعباءة الوقار والحشمة، وتركنا من اعتدوا علينا وانتهكوا حقوقنا يصولون ويجولون حتى انتقلوا من وضع النفوذ والمحسوبية إلى أوضاع المس بالروح والوجود.. وهذه المرة لن نتركهم. وفي مغرب المستقبل كل الأمل..ابتداء من الغد..